قراءة في كتاب رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار

رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار محمد بن عبد الله ابن بطوطة وابن جزي الكلبي

قراءة في كتاب رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار

يُعَدُّ هذا الكتابُ من أشهرِ كُتبِ الرِّحلاتِ في التاريخ؛ فقد عُرِفَ «ابن بطوطة» بكثرةِ أَسْفاره، وبسببِ شُهرتِه العالميةِ لقَّبَته «جمعيةُ كامبريدج» ﺑ «أمير الرحَّالةِ المُسلمِين». بدأَ «ابن بطوطة» رِحلتَه من «طنجة» مَسقطِ رأسِه؛ ناويًا حجَّ بيتِ اللهِ الحرام، ورحَلَ دونَ رفيقٍ ولا قَرِيب، واتخذَ في كلِّ مدينةٍ وقَفَ فيها صاحبًا، فحكى عنه وعن المدينةِ التي قابَلَه فيها. قُدِّرَ زمنُ رِحلاتِه بما يَقربُ من الثلاثينَ عامًا، وقد أَمْلى على «ابن جزي الكلبي» تَفاصيلَ تلكَ الرِّحلاتِ ونَوادرَها، وبعدَما انتهى منَ التدوينِ أطلَقَ على مؤلَّفِه هذا اسمَ: «تُحْفة النُّظَّارِ في غرائبِ الأَمْصارِ وعجائبِ الأَسْفار». لم يَكْتفِ «ابن بطوطة» بالوصفِ الخارجيِّ للأماكنِ التي زارَها، بل استفاضَ في الحديثِ عن مَداخلِ المدنِ ومَخارِجِها وطَبائعِ الشعوبِ المُختلِفةِ التي عاشَرَها، وسرَدَ العديدَ منَ الحِكاياتِ المشوِّقةِ التي جعَلَتْه من رُوَّادِ أدبِ الرحلاتِ في الأدبِ العربي، حتى إنَّنا لا نَستطيعُ الإشارةَ إلى شخصٍ كثيرِ التَّرْحالِ دونَ أن نلقِّبَه ﺑ «ابن بطوطة».

وصف الكتاب الخارجي:

رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
محمد بن عبد الله ابن بطوطة وابن جزي الكلبي.

تعريف بالمؤلف:

ابن بطوطة: هو أحدُ أشهرِ رحَّالةِ العَرب، اشتُهِرَ برِحلاتِه التي استغرقَتْ ما يَقربُ من الثلاثينَ عامًا، زارَ فيها كلَّ ما عُرِفَ من بلادِ العالَمِ في عصرِه.

وُلِدَ «محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي» الشهيرُ ﺑ «ابن بطُّوطة» بالقربِ من مَضيقِ جبلِ طارقٍ في مدينةِ طنجةَ عامَ ٧٠٣ﻫ/١٣٠٤م، واشتُهِرتْ أسرتُه بالاشتغالِ بالقضاءِ في عهدِ الدولةِ المرينيَّة، فتعهَّدَه والِداه بالرعايةِ لإعدادِه لتولِّي منصبِ القضاءِ كما هيَ عادةُ أسرتِه، لكنَّه ومعَ إتمامِه سنَّ الثانيةِ والعشرينَ أرادَ أداءَ فريضةِ الحج، فبدأتْ رِحلتُه عامَ ٧٢٥ﻫ وانتهتْ بعودتِه إلى مدينةِ فاسَ بشمالِ أفريقيا عامَ ٧٥٤ﻫ.

وعقِبَ عودتِه من رِحلتِه أمَرَ السلطانُ «أبو عنان فارس المريني» ابنَ بطُّوطةَ أن يدوِّنَ رِحلتَه، وأمَرَ كاتِبَه «محمد بن أحمد بن جزي الكلبي» بالكتابةِ إملاءً عن ابنِ بطُّوطة، وقد خرجَتْ في حُلَّتِها المعروفةِ بعدَ تنقيحِ ابن الكلبي وتهذيبِه عامَ ٧٥٦ﻫ.
تولَّى ابنُ بطُّوطةَ القضاءَ بالدولةِ المرينيَّةِ بعدَ عودتِه من رِحلتِه وحتَّى وَفاتِه عامَ ٧٧٩ﻫ/١٣٧٧م.

ابن جزي الكلبي:

العالِمُ والخطيبُ والمُحدِّثُ والمُفسِّرُ والشاعِر، واحدٌ من أعلامِ أهلِ الأندلس، وأحدُ شيوخِ المؤرِّخِ الكبيرِ (لسان الدين الخطيب).

وُلِدَ «محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي الأندلسي» في مدينةِ غرناطةَ عامَ ١٢٩٤م، لأسرةٍ يمنيةٍ تَنتمي لقبيلةِ بني كلبٍ العربية؛ حيث قدِمَتْ أسرتُه إلى الأندلس في نهايةِ القرنِ الثاني الهجري، واستطاعَتْ أنْ تحتلَّ مَكانةً بارزة؛ حيثُ كانَ لأحدِ أجدادِه مكانةٌ كبيرةٌ في دولةِ المرابِطِين، كما تولَّى جَدُّه مَنصبَ القضاء. وقد حفِظَ ابن جزي القرآنَ الكريمَ وتلقَّى العلمَ على يدِ مجموعةٍ من شيوخِ عصرِه، أمثالِ الإمامِ أبي جعفر بن الزبير، وأبي عبد الله بن رُشيد.

نبغَ ابنُ جزي في عددٍ منَ العلوم، منها: عِلمُ القراءاتِ والفِقهُ والحديثُ والتفسيرُ واللغةُ والشِّعرُ حيثُ اشتُهِرَ بشِعرِ الشَّكوى والتصوُّف. وتتلمذَ على يدِه عددٌ منَ العلماء، وعلى رأسِهم لسانُ الدين بن الخطيب صاحِبُ كتابِ «الإحاطة في أخبار غرناطة». ومِن مُؤلَّفاتِ ابن جزي: «النورُ المبينُ في قواعدِ عقائدِ الدِّين»، و«تقريبُ الوصولِ إلى علمِ الأصول»، ويُعَدُّ كتابُه «القوانينُ الفقهيَّة» واحدًا من أهمِّ كُتبِ الفقهِ الإسلامي؛ حيثُ استطاعَ فيه أنْ يَستعرِضَ تاريخَ الفقهِ مُتماشيًا معَ كافَّةِ المذاهِبِ الإسلاميَّة. كما له فضلٌ كبيرٌ في أنْ تَصِلَ لنا رحلةُ «ابنِ بطُّوطةَ» المسمَّاةُ «تحفةُ النُّظَّارِ في غرائبِ الأمصارِ وعجائبِ الأسفار»؛ حيثُ الْتَقى ابنُ جزي بابنِ بطُّوطةَ في مدينةِ فاس بالمغربِ عامَ ٧٥٦ﻫ، وأملى ابنُ بطُّوطةَ عليه رِحلتَه التي نُشِرتْ لأولِ مرَّةٍ عامَ ١٨٥٣م.

عاشَ ابنُ جزي في وقتٍ كانَ الصراعُ فيه على أشدِّه بينَ المسلمِينَ والمسيحيِّين، وماتَ أثناءَ مُشارَكتِه في مَعركةِ طريف بالأندلس عامَ ١٣٤٠م.

مقطع من كتاب (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) لرحلة ابن بطوطة:

ذِكْر سلطان تونس

وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله، وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي الجماعة بها أبو عبد الله محمد بن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع الربعي، وولي أيضًا قضاء الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري.

 وولي أيضًا قضاءها وكان من أعلام العلماء، ومن عوائده أنه يَسْتَنِدُ كلَّ يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس في المسائل، فلما أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيدُ الفطر فحضرْتُ المصلى، وقد احتفل الناس لشهود عيدهم وبرزوا في أَجْمَل هيئة وأَكْمل شارة، ووافى السلطان أبو يحيى المذكور راكبًا وجميع أقاربه وخواصه وخدام مملكته مشاةً على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصَلَّيْتُ الصلاة وانقضت الخطبة وانصرف الناس إلى منازلهم. وبعد مدة تَعَيَّنَ لركب الحجاز الشريف شيخُه يُعْرَف بأبي يعقوب السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية وأكثره المصامدة فقد موني قاضيًا بينهم، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة سوسة وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطئ البحر بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلًا، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه، قال ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول علي بن حبيبٍ التنوخي (كامل):

سقيًا لأرض صفاقسٍ ذات المصانع والمُصَلَّى
محمي القصير إلى الخليـ ـج فقصْرها السامي المُعَلَّى
بلد يكاد يقول حيـ ـن تزوره أهلًا وسهلَا
وكأنه والبحر يحـ ـسر تارة عنه ويملَا
صب يريد زيارة فإذا رأى الرقباء ولَّى

وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم، وكان من المجيدين المكثرين (بسيط):

صفاقسٌ لا صفا عيشٌ لساكنها ولا سقى أَرْضَها غيثٌ إذا انسكبَا
ناهيك من بلدة مَنْ حَلَّ ساحَتَهَا عانى بها العاديين الروم والعربَا
كم ضَلَّ في البر مسلوبًا بضاعته وبات في البحر يشكو الأَسْر والعَطَبَا
قد عَايَنَ البحر من لوم لقاطنها فكلما هَمَّ أن يدنو لها هَرَبَا

(رجع)، ثم وصلنا إلى مدينة قابس، ونزلنا بداخلها وأَقَمْنَا بها عشرًا لتوالي نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذِكْر قابس: يقول بعضهم (رجز):

لهفي على طيب ليال خَلَتْ بجانب البطحاء من قابسِ
كأن قلبي عند تذكارها جذوة نار بيد قابسِ

(رجع)، ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصَحِبْنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيدون، وكان بالركب قوم رماة فهابَتْهُم العرب، وتحامت مكانهم وعصمنا الله منهم، وأَظَلَّنَا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل، وفي الرابع بعده وَصَلْنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة، وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس، ثم خرجت من طرابلس أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفًا من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاته ومسراته وقصور سرت، وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا، ثم صَرَفَتْهُم القدرة وحالت دون ما راموه من إذايتنا، ثم توسَّطْنا الغابة وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووَقَعَ بيني وبين صهري مشاجرة أَوْجَبَتْ فراق بنته، وتزوجْتُ بنتًا لبعض طلبة فاس، وبنيْتُ بها بقصر الزعافية، وأولمْتُ وليمة حبسْتُ لها الركب يومًا وأطعمْتُهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حَرَسَها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشان، الأصيلة البنيان، بها ما شِئْتَ من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودِين، كَرُمَتْ مغانيها، ولَطُفَتْ معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة تجلى سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغْرِب، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرِب، فكل بديعة بها اجتلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها، وقد وَصَفَها الناس فأطنبوا، وصَنَّفُوا في عجائبها فأغربوا، وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.

ذكر بعض علماء الإسكندرية

فمنهم قاضيها عماد الدين الكندي إمام من أئمة علم اللسان، وكان يَعْتَمُّ بعمامة خَرَقَتْ المعتاد للعمائم، لم أرَ في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها، رأيته يومًا قاعدًا في صدر محراب، وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب، ومنهم فخر الدين بن الريغي، وهو أيضًا من القضاة بالإسكندرية فاضل من أهل العلم ذكر الأهرام والبرابي.

وهي من العجائب المذكورة على مر الدهور، وللناس فيها كلام كثير وخوض في شأنها وأَوَّلِية بنائها، ويزعمون أن جميع العلوم التي ظَهَرَتْ قبل الطوفان أُخِذَتْ عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى، ويسمى أخنوخ وهو إدريس عليه السلام، وأنه أَوَّل من تَكَلَّم في الحركات الفلكية والجواهر العُلْوِيَّة، وأول من بنى الهياكل ومَجَّدَ الله تعالى فيها، وأنه أَنْذَرَ الناس بالطوفان وخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع، فبنى الأهرام والبرابي، وصَوَّرَ فيها جميع الصنائع والآلات ورَسَمَ العلوم فيها لتبقى مُخَلَّدة، ويقال: إن دار العلم والملك بمصر مدينة مَنْف، وهي على بريد من الفسطاط، فلما بُنِيَت الإسكندرية انتقل الناس إليها، وصارت دارَ العلم والملك إلى أن أتى الإسلام، فاخْتَطَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط، فهي قاعدة مصر إلى هذا العهد، والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو مستدير متسع الأسفل ضيِّق الأعلى كالشكل المخروط، ولا أبواب لها ولا تعلم كيفية بنائها، ومما يُذْكَر في شأنها أن ملكًا من ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالَتْه، وأَوْجَبَتْ عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب الغربي من النيل؛ لتكون مستودعًا للعلوم ولجثة الملوك، وأنه سأل المنجمين هل يُفْتَح منها موضع؟ فأخبروه أنها تُفْتَح من الجانب الشمالي، وعَيَّنُوا له الموضع الذي تُفْتَح منه ومَبْلَغ الإنفاق في فَتْحه، فأمر أن يُجْعَل بذلك الموضع من المال قَدْر ما أخبروه أنه يُنْفَق في فَتْحه، واشتد في البناء فأتمه في ستين سنة، وكتب عليها: بنينا هذه الأهرام في ستين سنة، فليَهْدِمْها من يريد ذلك في ستمائة سنة، فإن الهدم أَيْسَر من البناء، فلما أَفْضَت الخلافة إلى أمير المؤمنين المأمون أراد هَدْمها، فأشار عليه بعض مشايخ مصر أن لا يفعل، فلَجَّ في ذلك، وأَمَرَ أن تُفْتَح من الجانب الشمالي، فكانوا يوقدون عليها النار ثم يرشونها بالخل ويرمونها بالمنجنيق، حتى فُتِحَت الثلمة التي بها إلى اليوم، ووجدوا بإزاء النقب مالًا أَمَرَ أمير المؤمنين بوزنه، فحَصَرَ ما أَنْفَقَ في النقب فوجدهما سواء، فطال عَجَبُه من ذلك، ووجدوا عَرْض الحائط عشرين ذراعًا.

المصادر والمراجع:

موقع: هنداوي
تعليقات